أنظمة التعبئة والتغليف المصرية: الاستثمارات الصناعية في القاهرة والإسكندرية. لم تعد مصر مجرد بلد يروي قصة الأهرامات ونهر النيل، بل أصبحت اليوم قوة صناعية هائلة، تُلامس مئات الآلاف من زجاجات المياه، وملايين العلب المعدنية، وآلاف عبوات الأدوية يوميًا. وينبض قلب هذا التحول في مدينتين: القاهرة والإسكندرية. القاهرة هي المركز السياسي والاقتصادي والثقافي لمصر. هنا، لم تعد المصانع الحديثة قائمة في الشوارع، بل في المناطق الصناعية مثل مدينة السادس من أكتوبر، والشروق، ومدينة 15 مايو. تتتبع خطوط التعبئة الآلية المصممة للأغذية والأدوية ومنتجات التنظيف والمشروبات تاريخ المنتج وموقعه وجودته بأنظمة دقيقة كالكاميرات. تسعى هذه المرافق، المبنية بتقنيات من تركيا وألمانيا والولايات المتحدة، ليس فقط إلى تحسين الإنتاج، ولكن أيضًا إلى تعزيز قيمة المواد الخام المحلية. على سبيل المثال، تُعبأ الزجاجات الزجاجية في مصر بواسطة آلات من ألمانيا وتُشحن إلى السوق المحلية وإلى العديد من الدول الأفريقية. هنا، لم يعد التغليف مجرد حاوية، بل هوية علامة تجارية، ورمز للثقة، ومفتاح للصادرات. ومن أبرز التطورات في هذه العملية: التغليف الأخضر. فقد تم إدخال مواد مصنوعة من الورق والخيزران والنشا لتقليل استخدام البلاستيك. وتُنتج شركة ناشئة مقرها القاهرة، تُدعى "مركز إيكو باك"، عبوات قابلة للتحلل الحيوي بالكامل. تُلبي هذه المنتجات المعايير البيئية الأوروبية الصارمة، مما يُمهد الطريق لأول "علامة تجارية لتصدير عبوات صديقة للبيئة" في مصر. حتى أن بعض الشركات تُدمج رموز الاستجابة السريعة (QR codes) على عبواتها، لتُظهر للمستهلكين مصدر المنتج، وكيفية معالجته، وما إذا كان قابلاً لإعادة التدوير. لا يقتصر الأمر على التكنولوجيا فحسب، بل يتعلق بحوار جديد مع المستهلك. ومع ذلك، تُمثل الإسكندرية الجانب المرفئي من هذه القصة. فبصفتها أكبر ميناء بحري في مصر، تعج المدينة بالسفن من جميع أنحاء العالم. والآن، لم تعد هذه السفن تحمل الحبوب أو الزيت فحسب؛ بل تحمل أيضًا سلعًا مُعبأة مُنتجة في مصر نفسها. منطقة "أليكسبورت للتعبئة والتغليف"، التي أُنشئت في الإسكندرية، هي موقع يمتد على مساحة 150 فدانًا، ويضم مصانع مشتركة بناها مستثمرون أتراك وصينيون وهنود. هنا، تُعبأ الأسماك وعصائر الفاكهة والشامبو والمنظفات باستخدام أنظمة تغليف مجمدة مفرغة من الهواء. وفي منشأة تعمل بتقنية نرويجية، تُباع الأسماك المصرية في غضون أسبوع عبر سلسلة التبريد النرويجية. لا يقتصر الأمر على التجارة فحسب، بل يرمز إلى انتقال أفريقيا من ميناء إلى سوق عالمية. كما أُطلق ابتكار آخر في الإسكندرية: "نظام إعادة الزجاجات". حيث يستعيد 500 سوبر ماركت الزجاجات البلاستيكية المجمعة من المنازل، وينظفونها، ويعيدون تعبئتها. وقد أُعيد تدوير ثمانية ملايين زجاجة في شهر واحد. وهذا يُحدث نقلة نوعية في مصر. لم يعد التغليف شيئًا يُستخدم مرة واحدة ثم يُرمى، بل هو جزء من دورة حياة. وتحظى هذه التطورات بدعم قوي. تُعدّ تركيا أكبر مستثمر في مجال التغليف في مصر، حيث يُقدم آلاف الخبراء الأتراك التدريب في المصانع في القاهرة، وتُقدم ألمانيا تقنيات متطورة، ويُقدم الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي ملايين الدولارات للمشاريع الخضراء. مع ذلك، صنّفت الحكومة قطاع التعبئة والتغليف "صناعةً استراتيجية"، وتدعمه بإعفاءات ضريبية، ومزايا المناطق الحرة، وبرامج تدريبية جديدة. تضم جامعة القاهرة الآن قسمًا لهندسة التعبئة والتغليف. يعمل الشباب بأفكارهم، لا بالآلات. بالطبع، هناك تحدياتٌ مثل انقطاع التيار الكهربائي. ولكن هناك أيضًا حلول: خطوط تعبئة تعمل بالطاقة الشمسية، وأنظمةٌ تستعيد 90% من المياه، وتصميمات تعبئة وتغليف خاصة بطابعات ثلاثية الأبعاد... أحيانًا، قد يُحدث ابتكارٌ صغير تغييرًا جذريًا. والنتيجة النهائية لهذا التغيير واضحةٌ وضوح الشمس: بحلول عام 2030، ستصبح مصر أكبر مركز تعبئة وتغليف في إفريقيا. أصبحت المنتجات المحلية معروفةً ليس فقط في مصر، بل أيضًا في شمال إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا. أصبحت كل زجاجة، وكل علبة، وكل ملصق لغةً تستخدمها مصر لتقول: "أنا هنا". إذا كانت الأهرامات إرثًا من الماضي، فإن التعبئة والتغليف هو أحجار المستقبل. أصبحت مصر معروفةً ليس فقط بتاريخها، بل أيضًا كأمةٍ تعلمت الوصول إلى العالم من خلال التعبئة والتغليف. وهذا التغليف لا يقتصر على حماية المنتج فحسب، بل يهدف أيضًا إلى الحفاظ على ثقة الوطن بنفسه واستقلاله الاقتصادي وأملِه. فبينما تعمل امرأة في القاهرة على خط تعبئة، أو يُنهي شاب في الإسكندرية تصميم عبوة على حاسوبه، تبني مصر مستقبلها بأيديها. وهذا البناء مبني بالحجارة، وليس بالزجاجات والعلب، وبقليل من الرؤية.
E5 Global Trade | Yazılar
أنظمة التعبئة والتغليف المصرية: الاستثمارات الصناعية في القاهرة والإسكندرية
